الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***
وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ بهذا الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» حتى لو بَاعَ رَجُلٌ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ أو عَتَاقَةٍ بِعَبْدٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كان إعْتَاقُهُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ إذْ الْوَلَاءُ ليس بِمَالٍ فلم يَمْلِكْهُ فلم يَصِحَّ إعْتَاقُهُ كما لو اشْتَرَى عَبْدًا بِمَيْتَةٍ أو دَمٍ أو بِحُرٍّ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ. وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَاءَهُ من آخَرَ أو وَهَبَهُ لَا يَكُونُ بَيْعًا أَيْضًا وَلَا هِبَةً لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلَاءِ الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً لِهَذَا الثَّانِي لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُعْتَاضُ منه فَبَطَل الْعِوَضُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ الْوَلَاءُ لَك فَيَكُونُ مُوَالَاةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي كما لو سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ صَحَّ التَّسْلِيمُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْمَالُ.
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ فإنه يَظْهَرُ بِمَا ظَهَرَ بِهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وهو الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ أو الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ كان الْإِقْرَارُ في الصِّحَّةِ أو الْمَرَضِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في إقْرَارِهِ إذَا لم يَكُنْ له وَارِثٌ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ كما تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إذَا لم يَكُنْ له وَارِثٌ مَعْلُومٌ. وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ منه إذَا لم يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي أَلِبَيْتِ الْمَالِ أو لِغَيْرِهِ وهو يَدَّعِي أَنَّهُ له وَلَا مَانِعَ عنه فَلَا يَتَعَرَّضُ له فَإِنْ خَاصَمَهُ أَحَدٌ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ لَا بد [يد] له وكان مُدَّعِيًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ. الْكَلَامُ في هذا الْكتاب يَقَعُ في سَبْعِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِ الإجارة وفي بَيَانِ رُكْنِ الإجارة وَمَعْنَاهَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الإجارة وفي بَيَانِ حُكْمِ الإجارة وفي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ في عَقْدِ الإجارة وفي بَيَانِ ما يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الإجارة أَمَّا الْأَوَّلُ فَالإجارة جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال أبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَالْقِيَاسُ ما قَالَهُ لِأَنَّ الإجارة بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى ما يُؤْخَذُ في الْمُسْتَقْبَلِ كَإِضَافَةِ الْبَيْعِ إلَى أَعْيَانٍ تُؤْخَذُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ وَلَا بِاعْتِبَارِ المال فَلَا جَوَازَ لها رَأْسًا لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالْكتاب الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكتاب الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عز وجل خَبَرًا عن أَبُ الْمَرْأَتَيْنِ اللَّتَيْنِ سقي لَهُمَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ َالسَّلَامُ: {قال إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ على أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} أَيْ على أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لي أو على أَنْ تَجْعَلَ عِوَضِي من إنْكَاحِي ابْنَتِي إيَّاكَ رَعْيَ غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ يُقَالُ آجَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَوَّضَهُ وَأَثَابَهُ وَقَوْلُهُ عز وجل خَبَرًا عن تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ: {قالت إحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ من اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وما قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا من شَرَائِعِ من قَبْلَنَا من غَيْرِ نَسْخٍ يَصِيرُ شَرِيعَةً لنا مُبْتَدَأَةً وَيَلْزَمُنَا على أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا لَا على أَنَّهُ شَرِيعَةُ من قَبْلَنَا لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوْلُهُ عز وجل: {فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ} وَالإجارة ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ وَقَوْلُهُ عز وجل: {ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ}. وقد قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ في حَجِّ الْمُكَارِي فإنه رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فقال إنَّا قَوْمٌ نكري وَنَزْعُمُ أَنْ ليس لنا حَجٌّ فقال أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ وَتَقِفُونَ وَتَرْمُونَ فقال نعم فقال رضي اللَّهُ عنه أَنْتُمْ حُجَّاجٌ ثُمَّ قال سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عَمَّا سَأَلْتنِي فلم يُجِبْهُ حتى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ} فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْتُمْ حُجَّاجٌ. وَقَوْلُهُ عز وجل في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} نَفَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ وَالْمُرَادُ منه الِاسْتِرْضَاعُ بِالأجرةِ دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {إذَا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} قِيلَ أَيْ الأجر الذي قَبِلْتُمْ وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَهَذَا نَصٌّ وهو في الْمُطَلَّقَاتِ وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَى مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ على سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ على خِطْبَتِهِ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَهَذَا منه صلى اللَّهُ عليه وسلم تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الإجارة وهو إعْلَامُ الأجر فَيَدُلُّ على الْجَوَازِ. وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قبل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» أَمَرَ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قبل فَرَاغِهِ من الْعَمَلِ من غَيْرِ فصل فَيَدُلُّ على جَوَازِ الإجارة. وَعَنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال: «ثَلَاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يوم الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى منه ولم يُعْطِهِ أَجْرَهُ». وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت اسْتَأْجَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وأبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه رَجُلًا من بَنِي الدئل [الديل] هَادِيًا خِرِّيتًا وهو على دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدئلي [الديلي] فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَأَدْنَى ما يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجَوَازُ. وروى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على رَافِعِ بن خَدِيجٍ وهو في حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فقال لِمَنْ هذا الْحَائِطُ فقال لي يا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ منه. خَصَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ منه وَلَوْ لم تَكُنْ الإجارة جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ عن الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَكَذَا بُعِثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فلم يُنْكِرْ عليهم فَكَانَ ذلك تَقْرِيرًا منه وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على ذلك قبل وُجُودِ الْأَصَمِّ حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الإجارة من زَمَنِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى يَوْمِنَا هذا من غَيْرِ نَكِيرٍ فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هو خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى الإجارة ماستهم [ماسة] لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ له دَارٌ مَمْلُوكَةٌ يَسْكُنُهَا أو أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أو دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ يَرْكَبُهَا وقد لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ لِأَنَّ نَفْسَ كل وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الإجارة فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ الناس كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ تَحْقِيقُهُ إن الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بها فَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وهو الْبَيْعُ وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وهو الْهِبَةُ وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وهو الْإِعَارَةُ فَلَوْ لم يُشَرِّعْ الإجارة مع امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لم يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هذه الْحَاجَةِ سَبِيلًا وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا رُكْنُ الإجارة وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عليها وهو لَفْظُ الإجارة وَالِاسْتِئْجَارِ وَالِاكْتِرَاءِ وَالْإِكْرَاءِ فإذا وُجِدَ ذلك فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ وَالْكَلَامُ في صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا في الإجارة كَالْكَلَامِ فِيهِمَا في الْبَيْعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في كتاب الْبُيُوعِ وَأَمَّا مَعْنَى الإجارة فَالإجارة بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا سمى الْبَدَلُ في هذا الْعَقْدِ أُجْرَةً وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَالأجرةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سمى الْمَهْرُ في باب النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عز وجل: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْفَسَاطِيطِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ وَنَحْوِ ذلك أو إلَى الصُّنَّاعِ من الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ وَالْأَجِيرُ قد يَكُونُ خَاصًّا وهو الذي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وهو الْمُسَمَّى بِأَجِيرِ الوحد [الواحد] وقد يَكُونُ مُشْتَرَكًا وهو الذي يَعْمَلُ لِعَامَّةِ الناس وهو الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الإجارة نَوْعَانِ إجَارَةٌ على الْمَنَافِعِ وَإِجَارَةٌ على الْأَعْمَالِ وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ الْمَعْقُودَ عليه في أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وفي الْآخَرِ الْعَمَلَ وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عليه الْمَنْفَعَةَ في النَّوْعَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ من الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وقد يُقَامُ فيه تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الِاسْتِيفَاءِ كما في أَجِيرِ الوحد [الواحد] حتى لو سَلَّمَ نَفْسَهُ في الْمُدَّةِ ولم يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الأجر. وإذا عُرِفَ أَنَّ الإجارة بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عليه بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالإجارة بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أو سَمْنِهَا أو صُوفِهَا أو وَلَدِهَا لِأَنَّ هذه أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الإجارة وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ ليرضع [لترضع] جَدْيًا أو صَبِيًّا لِمَا قُلْنَا وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ في نَهْرٍ أو بِئْرٍ أو قَنَاةٍ أو عَيْنٍ لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ وَالْبِئْرَ مع الْمَاءِ لم يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْمَاءُ وهو عَيْنٌ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ التي فيها الْمَاءُ لِلسَّمَكِ وَغَيْرِهِ من الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مع الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ فَاسِدٌ فَكَانَ مع الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي لِأَنَّ الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الإجارة وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الإجارة الْمَنْفَعَةُ لَا الْعَيْنُ حتى لو اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بها مِيزَانًا أو حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بها مِكْيَالًا أو زَيْتًا ليعير [ليعبر] بِهِ أَرْطَالًا أو أَمْنَانًا أو وَقْتًا مَعْلُومًا ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ ذلك نَوْعُ انْتِفَاعٍ بها مع بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وهو كَوْنُ الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ من هذه الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ وهو عَيْنٌ وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن عَسْبِ الْفَحْلِ أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ في اللُّغَةِ وَإِنْ كان اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عليه لِأَنَّ ذلك ليس بِمَنْهِيٍّ لِمَا في النَّهْيِ عنه من قَطْعِ النَّسْلِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ مَقَامَهُ كما في قَوْلِهِ عز وجل: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} وَنَحْوِ ذلك وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ أو بَازِيًا لم يَجُزْ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ على الْعَيْنِ وهو الصَّيْدُ وَجِنْسُ هذه الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ على الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وإنه اسْتِئْجَارٌ على الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ إنها لو أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لم تَسْتَحِقَّ الأجرةَ فَالْجَوَابُ إنه رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ على خِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ على طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذلك اسْتِئْجَارًا على الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ من غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ وَنَحْوِ ذلك وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فيه تَبَعًا كَالصَّبْغِ في اسْتِئْجَارِ الصَّبَّاغِ وإذا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فلم تَأْتِ بِمَا دخل تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الأجرةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ لَوْنًا آخَرَ غير ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الأجر وَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه ليس هو الْمَنْفَعَةَ كَذَا هَهُنَا. وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال إنَّ الْمَعْقُودَ عليه هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تبع [تتبع] لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فأجرى اللَّبَنُ مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ وَالْقِصَارَةِ وَالْكتابةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ وَاسْتِئْجَارُ الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الإجارة بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْباب وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لها لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا منها عَادَةً فَلَا تَقَعُ الإجارة بيع [ببيع] الْمَنْفَعَةِ فلم نجز [تجز] وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فيه وَالْقِرَاءَةُ منه وَالنَّظَرُ في مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ منه مُبَاحٌ وَالإجارة ببيع [بيع] الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ من الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فيها شِعْرًا أو فِقْهًا لِأَنَّ مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فيها وَالنَّظَرُ في دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ من غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كما لو اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ لِيَقْعُدَ فيه. وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شيئا من الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عليه لِانْعِدَامِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى هذا أَيْضًا يخرج [تخرج] إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي لِلْكَلَأِ وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ إنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أعلم.
|